فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله: {إلاَّ كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك} [يونس: 61] الآية، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبيء والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعدًا لا يقبل التغيير ولا التخلف تطمينًا لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه: {لا تَبديل لكلمات الله}.
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله: {ألا إنهم هم المفسدون} في سورة [البقرة: 12]، ولذلك أكدت الجملة بإنَّ بعد أداة التنبيه.
وفي التعبير بـ: {أولياء الله} دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله: {وما تعملون من عمل} [يونس: 61] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم.
وجملة: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} خبر: {إن}.
والخوف: توقع حصول المكروه للمتوقِّع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله.
فيقال: خاف الشيْء، قال تعالى: {فلا تخافوهم وخَافون} [آل عمران: 175].
وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع: خاف عليه، كقوله تعالى: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 135].
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن (لا) إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصًا وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهرًا مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحًا لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم (لا) وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديثِ أم زرع: «زوجي كلَيْللِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح.
فمعنى: {لا خوف عليهم} أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمنٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجسًا من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليمًا من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافًا إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى: {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة: 25، 26]، وقال لموسى: {لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى} [طه: 77]، وقال: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض». ثم خرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45].
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله: {ولا هم يحزنون} فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير: {أولياء الله} مع الابتداء به، وإيراد الفعل بَعده مسندًا مفيدًا تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون». فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله: {ولا هم يحزنون} لأن جملة: {هم يحزنون} يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصًا منه.
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم.
ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّدًا لمعنى نفي خوف خائف عليهم.
وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} [طه: 67].
وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
والولي: الموالي، أي المحالف والناصر.
وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي (بسكون اللام)، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي.
وتقدم في قوله تعالى: {قل أغير الله اتخذ وليًا} في سورة [الأنعام: 14].
وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة.
وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة: {لا خوف عليهم} خبر: {إنّ} ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفًا جاريًا على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه.
وأيًا ما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر:
الألْمعِي الذي يظن بك الظَّنَّ ** كأنْ قد رأى وقد سَمعا

ودل قوله: {وكانوا يتقون} على أن التقوى ملازمة لهم أخذًا من صيغة: {كانوا} وأنها متجددة منهم أخذًا من صيغة المضارع في قوله: {يتقون}.
وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خَلَتْ في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يُعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعًا وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: من عادَى لي وليًا فقد آذنته بحرب». اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
وجاءت هذه الآية بعد كلام الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وشاء الله سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات الإمداد على قَدْر رياضات المرتاضين، فَهَبْ أن الله قد امتن عليك بنفحة، فإياك أن تقول إنها من عندك، بل هي من عند عالم الغيب سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وعلى ذلك فلا يقال: إن فلانًا قد عَلِم غيبًا لأنه وليٌّ لله، بل لنقل: إن فلانا مُعَلَّمُ غَيْبٍ؛ لأن الغيب ما غاب عن الناس، وما يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فهو ليس غيبًا مطلقًا.
ومثال ذلك: الرجل الذي سُرق منه شيء، هو لا يعرف أين يوجد الشيء الذي سُرق منه، ولكنه اللص يعرف، وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات، كل هؤلاء يعلمون، وأيضًا الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون، وهذا ليس غيبًا مطلقًا.
وأيضًا أسرار الكون التي كانت غيبًا موقوتًا، مثل جاذبية الأرض، والسالب والموجب في الكهرباء، وتلقيح الرياح للسحاب لينزل الماء، كل ذلك كان غيبًا في زمن ما، ثم شاء الحق سبحانه فحدَّد لكل أمرٍ منها ميعادَ كشفٍ، فصارت أمورًا مشهورة.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ ليعمل الإنسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون.
ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين، فيصادف كشفًا آخر؛ لأن الله تعالى قد أذن لذلك الكشف الذي كان غيبًا أن يولد، وإن لم يبحث عنه أهل الأرض.
ومن اكتشف البنسلين رأى العفن الأخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك، واكتشف البنسلين.
وأرشميدس الذي اكتشف قانون الطفو، واستفادت منه صناعات السفن والغواصات، وكل ما يسير في البحر، وقد اكتشاف قانون الطفو صدفة.
إذن: ففي الكون غيب قد يصير مَشْهَدًا، إما بمقدِّمات يتابعها خَلْقُ الله بالبحث، وإما أن تأتي صدفة في أثناء أي بحث عن شيء آخر.
ومثال ذلك: عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء مُغَطّى يغلي فيه الماء، فضل غطاء الإناء يرتفع ليُخرج بعضًا من البخار، وانتبه الرجل إلى أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجرّ العربات التي تسير على عَجَل، وهكذا جاء عصر البخار.
إذن: فميلاد بعض من أسرار الكون كان تنبيهًا من الله تعالى لأحد عباده لكي يتأمل؛ ليكتشف سِرًّا من تلك الأسرار.
وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة، لنفهم أن عطاء الله بميلادها دون مقدمات من الخَلْق أكثر مما وُصِل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق.
ولذلك تجد التعبير الأدائي في القرآن عن لونَي الغيب، تعبيرًا دقيقًا لنفهم أن هناك غيبًا عن الخلق جميعًا وليست له مقدمات، ولا يشاء الله سبحانه له ميلادًا، واستأثر الله بعلمه؛ فلا يعلمه إلا هو سبحانه.
يقول الحق سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
هذا هو الغيب الذي يكشفه الله سبحانه لهم، إما بالمقدمات، أو بالصدفة، وقد نسب المشيئة له سبحانه، والإحاطة من البشر، وهذا هو غيب الابتكارات.
أما الغيب الآخر الذي لا يعلمه أحد إلا هو سبحانه ولا يُجَليِّه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الحق عنه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 2627].
إذن: فالحق سبحانه يفيض من غيبه الذاتي على بعض خَلْقه، والقرآن الكريم فيه الكثير من الغيب، وأفاضة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت الأحداث كما جاءت في القرآن.